حطّت الطائرة التركية التي تقلّ وفد الأمم المتحدة القادم لزيارة كوسوفو، في تمام الساعة التاسعة صباحاً، بدعوة من الحكومة، بمناسبة مرور عشر سنوات على الإستقلال.
في مطار العاصمة بريشتينا، نزل الوفد متوجهاً الى صالة الشرف بعد قضاء ١٢ ساعة في الجو من نيويورك الى كوسوفو متوقفين لبضع ساعات في مطار إسطنبول.
كان الوفد الصحافي متحمساً، خاصة وأن البعض منهم كان متابعاً لشؤون البلقان وشارك في تغطية فصول الحرب الضروس التي دارت بين صربيا وألبان كوسوفو، وانتهت بسيطرة الألبان على البلاد بمشاركة حربيّة عسكرية من حلف الناتو.
ولما كنت الصحافية العربية الوحيدة التي شاركت في الزيارة، كان لي نظرة مختلفة تجاه ما أراه أمامي، خاصة وانا لبنانية ترعرت في حرب تشبه فصولها الى حد ما النزاع في هذه البلاد. فهي مزيج من حرب حضارات مع نزاعات دينية مع تقاتل حول ملكية الأرض. تعددت الأسباب ومآسي الحرب واحدة.
لحظة وصولنا الى صالة الشرف، استقبلتنا صورة المناضل الألباني الشهيد آدِم يشاري، مبتسماً على الحائط، ملتحياً ببذّته العسكرية، وقد أطلق إسمه على المطار كوسوفو الدولي.
أول ما يلفت انتباه المشاهد الذي يطأ أرض هذه البلاد، هو الهدوء والطبيعة الخضراء النظيفة. سهول على مدّ النظر. فكوسوفو بطبيعتها هي أرض مسطّحة في اوروبا الشرقية، تلفّها سلسلة جبال تفصلها عن ألبانيا، صربيا ومونتينيغرو.
وصلنا الى فندق لو رويال بعد نصف ساعة، وفور نزولنا من السيارة سمعنا أجراس الكنائس تقرع في صباح ذلك الأحد، فنظرت الى زميلي البريطاني وقلت له: هنا الدنيي بألف خير، أي أن الحياة هانئة.
دخلنا الفندق، وضعنا الحقائب، وخرجت الى الشارع مجدداً مع زميلي البريطاني لأذهب الى حيث الكنيسة، وكأنني أردت أن أختبر بنفسي كيف أن البلاد تعيش في سلام، وان المسيحيين الصربيين والأقلية المسيحيّة الألبانية يمارسون حياتهم الروحية بكل حرية.
يوم الوصول الى كوسوفو كان يوم راحة واستجمام وقد دُعي الوفد الى مأدبة طعام في وادي غِرميا، المنتزه العائلي الكبير، القريب من بريشتينا، بضيافة سفيرة كوسوفو في نيويورك توتا سهاتشييا التي لاقت الوفد الأممي، لترشدنا في بلادها، الجمهورية التي أخذت استقلالها منذ عشر سنوات وهي تتحضر لتكون بلداً قوياً قادراً أن يحكم نفسه وينافس الدول الأوروبية خاصة والعالم عامة على كافة الأصعدة.
لا بد من الإشارة ان السفيرة توتا سهاتشييا تعتبر من الدبلوماسيين المميّزين في نيويورك وهي ترأس وفداً من المحترفين، منهم السفير ألبير كريزيو والدبلوماسية ألبانا بيليكباشي.
لم تخفِ السفيرة توتا سهاتشييا حسرتها على ما حصل في بلادها من تقاتل وعنف وخسارة للأرواح، وهي تشرح عن مآسي الحرب التي بدأت في ٢٨ شباط ١٩٩٨ لغاية حزيران ١٩٩٩ وراح ضحيتها الكثيرون.
لا يختلف تاريخ كوسوفو كثيراً عن تاريخ لبنان، فالإثنان عانا من الإحتلال العثماني ومن ظلم واضطهاد لمدة أربعمئة عام. كما وأن الإثنين خاضا حرباً دينية، بوجه أو بآخر، حتى ولو أنكر الألبان ذلك. وان النزاع المجنون الذي دار بين ألبان كوسوفو المسلمة بطبيعة شعبها وصربيا الأورثوذكسية المسيحيّة، قضى على أبرز المعالم الدينية العريقة في البلاد. وهم اليوم يعاودون بناءها لأن البلاد التي احتضنت حضارات عدة تتطلع الى تعزيز السياحة الدينية التي من شأنها أن تُغني قطاع الإقتصاد وتدر أموالاً على البلاد .
كوسوفو تشبه لبنان الى حدّ كبير، في الإنسان والحجر. الناس هي واحدة بالشكل واللون والعرق. كما وأن اختلاط الحضارات والأديان فيها يأخذك الى جرس الكنيسة المبني الى جانب مئذنة الجامع، وهما يصدحان بتناغم، تماماً كما المشهد في بيروت بين جامع محمد الأمين وكاتدرائية مار جرجس.
داون تاون بريشتينا
الى قلب العاصمة دُر. لا يختلف كثيراً مشهد داون تاون بريشتينا عن أي نظير له في اوروبا. أول ما يلفت انتباه السائح في العاصمة هي الكهرباء المؤمنة ٢٤ ساعة والنظافة. يستحيل أن ترى أوساخاً مرميّة او كيساً للنفايات. شارع طويل، على جانبيه المطاعم والمقاهي، مخصص للمشاة، من كافة الأعمار، فهو المنتزه الذي يقصده السكان في كل الأوقات.
صيف اوروبي جميل، هواء عليل، شارع نظيف، أمور شعرناها من اللحظة الأولى. لكن ما رأيته على وجوه الناس لا يمكن وصفه بمقال او تقرير. الحزن المختبئ في وجوههم المبتسمة بخجل كان واضحاً، لم أرَ شعباً فرحاً. ربما الحرب التي انتهت بالأمس منذ عشرين عاماً، ما تزال ذيولها تعيش في ذاكرة أبناء كوسوفو. الكل أصيب في الحرب، الكل تهجّر من منزله، الكل فقدَ أصدقاء او أقرباء او أولاداً. آلاف القصص المآسي تُحكى في كل مجالس العائلات. يخبر القنصل جيفديت سوباي، الذي رافق الوفد، كيف فَقَد ٣٥ فرداً من أسرته، وكاد يفقد زوجته وولديه لولا العناية الإلهية. يروي القنصل قصة عائلته بحزن ولكنه يتطلع للعمل الى مستقبل أفضل لأبنائه بروح التصالح والسلام.
داون تاون العاصمة هو الصورة الحقيقية للمواطنين الكوسوفيين. وكوسوفو المسلمة التي تعيش في قلب القارة الأوروبية، لا تختلف عن الشعب الأوروبي الغربي، لا من حيث الشكل ولا اللباس ولا العادات. وأكاد أجزم أنني لم ألمح سيدة تلبس حجاباً او أي زيّ تقليدي مسلم. فالدنيا صيف، والسيدات تلبسن الشورت والفستان القصير، حتى خُيِّل اليّ أنني أتمشى في شوارع بلجيكا او اسبانيا. ان مواطني كوسوفو يمارسون حياتهم الدينية من صوم وعبادة على أكمل وجه في دور العبادة وفي أوقات الصلاة، لكن لا شعائر دينية تستوقفك في الشوراع ولا يافطات او آيات تزيّن الجدران في اي وقت من الأوقات، وبإمكانك أن تطلب وتتناول الكحول بحرية.
شوارع ومارة، شعب مهذّب ومضياف، يشتري الوقت في السوق التجاري أكثر من أي شيء ملموس في هذا الزمن الصعب. لا تبدو حالته المادية أفضل من حالة دولته التي هي في طور التأسيس، أكثر ما يمكن شراؤه هو بضاعة محليّة بأسعار جداً مقبولة. تكاد الماركات العالمية من دور الأزياء أن تكون مفقودة، وإذا وجدتها، فإنها فقط لمتعة شراء أثرياء البلاد .
أكثر ما تشاهده في شوراع العاصمة او أي مدينة أخرى هو علم كوسوفو متوسطاً علم ألبانيا وعلم الولايات المتحدة. ويشرح زميلنا هليل مولا، ابن كوسوفو، سبب ظهور علم الولايات المتحدة في مختلف شوارع العاصمة، فيقول، نحن نضع علم اميركا في بلادنا كتحية شكر من أبناء كوسوفو، فهي ساعدتنا في الحرب وساهمت في نيل كوسوفو استقلالها وحريتها.
متحف كوسوفو
برفقة السفيرة توتا سهاشييا انتقل الوفد المرافق الى متحف كوسوفو في ختام اليوم الأول للزيارة. هو المتحف الوطني الذي تأسس عام ١٩٤٩، يضم أقساماً في علم الإثنوغرافيا والعلوم الطبيعية وعلم الآثار. يتألف المتحف من أجزاء عدة أبرزها متحف الإستقلال. فهو يحتضن قطع أثرية تعود الى القرن الأول. كما أن لحقبة الحكم العثماني حصة كبيرة في المعرض، حيث شاهدنا أدوات حربية تعود الى القرن السابع عشر.
ولحرب كوسوفو التي حصلت بالأمس القريب، منذ عشرين عاماً، غرفة خاصة تحتوي لوحات تروي لحظات الهروب الى جبال ألبانيا وسط الثلوج، مع وجود صور لمخيمات اللاجئين التي شيّدت على الحدود مع ألبانيا لعشرات آلاف المدنيين الهاربين.
متحف كوسوفو يروي للزائر حياة أرض منذ نشأتها وحتى اليوم، أي يمكنكم أن تشاهدوا آلاف السنين والقرون في مبنى واحد يحتفظ كنوز التراث والتاريخ في البلقان الجميل.